الأصابع التي لا يجب أن نختفي وراءها كعرب، أي أصابعنا، هي إنكار العلاقات الاقتصادية والعسكرية الصناعية المزدهرة بين الصين وإسرائيل وبين الهند وإسرائيل رغم تنافس الصين والهند الجيوبوليتيكي.

صادف وجودي في زيارة سياحية للهند مطلع هذا العام الجديد خلال زيارة رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو لنيودلهي وهذا ما مكّنني أن أرى كيف كانت قنوات التلفزيون الهندي المحلي والأهم أعمدة الصفحات الأولى من الصحف الرئيسية الهندية (التي بعضها يطبع نسخة خاصة مشتركة ومختلفة لكل ولاية أو لعدد منها) تمتلئ بصور الاستقبال الحار الذي قام به رئيس الوزراء الهندي القوي على رأس ائتلاف يميني حكومي ناراندرا داموداراس مودي لنتنياهو. صحيفة هندوستان قالت أن نتنياهو فوجئ على المطار بهذه الحرارة بدءا من العناق، وهو ليس تقليدا هنديا دارجا للضيافة بل يعتمد الاستقبال التقليدي على انحناءة المضيف وحركة الاحترام بالكفّين المجتمعَيْن أو حين يكون الهندي ضيفا ولكن دون عناق بالضرورة.

ضمن برنامج الزيارة كان الاحتفال المشترك بالكتيبة الهندية التي شاركت ضمن قوات الجنرال البريطاني أللنبي في احتلال حيفا خلال الحرب العالمية الأولى. وسجلت “هآرتس” ظاهرة تأييد كبير في بعض أوساط “الوطنيين الهندوس” الشباب لإسرائيل على وسائل التواصل الاجتماعي والأرجح أن سبب التأييد هو أنتي إسلامي بالمعنيين: الديني والأصولي الإرهابي. حتى أن “هآرتس” وهي تصف علاقة مودي – نتنياهو بـ”قصة حب” قالت إن لليهود الهنود دورا أساسيا فيها.

طبعا الهند دولة صاعدة سياسيا وناهضة تحديثيا لاسيما في تكنولوجيا المعلومات. والعلاقة مع إسرائيل إغراؤها الأول البنية الصناعية المتقدمة لإسرائيل ومنها الصناعة العسكرية. وهذا ما ينطبق أيضا على الصين في العديد من المجالات. وبهذا تكون إسرائيل على علاقة جيدة مع الدولتين الكبيرتين اللتين يزداد تنافسهما في جنوب آسيا والمحيط الهندي. مع ذلك، هذا أكثر من طبيعي لدولتين كبيرتين، فكلا الهند والصين اقترعتا ضد قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.

الموقف لم يتغيّر مع الصين كما هو معروف في سوريا كأحد الحاميَيْن الدوليين مع روسيا لموقف النظام السوري وطبعا لوجود المعطى الكبير الآخر وهو الاعتماد المتزايد للصين على نفط الشرق الأوسط لاسيما الإيراني والخليجي.

لكن التمايز الأكيد بين الموقفين الصيني والهندي هو المتعلق بالعلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية ومع ذلك يبدو ذلك غير حاسم في العلاقات الثنائية لكل من بكين ونيودلهي مع إسرائيل. واشنطن ونيودلهي تصفان علاقاتهما بالتحالف بينما السمة الرئيسية للعلاقات الأميركية مع الصين هي التنافس الذي يأخذ أحيانا شكلاً عدائيا متزايدا وينعكس على المجال التجاري وليس فقط الجيوبوليتيكي.

بهذا المعنى تبدو إسرائيل حاليا على علاقة جيدة على أكثر من مستوى مع الدول الرئيسية الثلاث: الهند والصين وروسيا. وهذا بحد ذاته مؤشر شديد الجدية على التحسن الاستراتيجي لموقع إسرائيل الدولي وعلامة هامة في الشطرنج الجديد في الشرق الأوسط.

لا يجوز الكلام عن إسرائيل دون بعض التأمل في الحالة الفلسطينية أو الأصح “حالتنا” الفلسطينية؟

 يوري أفنيري الكاتب الإسرائيلي النقدي المعروف يسمّي الكلمة الطويلة التي ألقاها محمود عباس قبل فترة أمام المجلس المركزي الفلسطيني “خطاب يخرب بيتك” بسبب تكرار استخدامه لهذا التعبير العامي العربي الاستنكاري خلال الخطاب..

إنه السياق الذي صدر فيه قرار قيادة “السلطة الوطنية” بمقاطعة زيارة نائب الرئيس الأميركي مايك بنس والسياق نفسه الذي جعل دونالد ترامب في دافوس يقول أن الرئيس محمود عباس أهانه في ذلك الخطاب وجاء هذا بعد قوله أن الجانب الفلسطيني لم يحترم نائب الرئيس.

لقد استمعتُ بشكل كامل إلى خطاب عباس الذي أذيع مباشرةً على القناة الرسمية الفلسطينية في رام الله. كان “خطاب يخرب بيتك” بهذا المعنى خطابا تاريخيا أمام أزمة تحوّلٍ تاريخي بعد قرار ترامب. هذا القرار الذي وصَفَتْه شخصيات فلسطينية بأنه “لا يقل خطورة عن زيارة الرئيس أنور السادات للقدس”.

لقد عبّر خطاب عباس لا شك عن القماشة السياسية الوطنية الرفيعة لهذا القيادي الفلسطيني وأثبت سخفَ الاتهامات القديمة التي كانت تشكِّك بإخلاصه الوطني بينما تُظهِر الأحداث أن المدرسة الفتحاوية التي ينتمي إليها هذا القيادي ورغم شيخوختها (وفساد بيروقراطيّتها المخضرمة) هي في العمق لا تزال الحافظة السياسية الأولى لمشروع الدولة الفلسطينية المستقلة.

في خطاب عباس عودة الروح للفتحاوية كمدرسة قيادة للشعب الفلسطيني. لكن هذا لا يمنع البحث في تحديات مستقبلية تتطلب التغيير ليس فقط بالأساليب والمخططات بل أيضا بالأشخاص. وفي المقدمة في شخص الرئيس.

 السؤال هل الخطاب هو حركة على رقعة الشطرنج أم حركة مبدئية لا غنى عنها أمام فداحة الانتهاك الترامبي؟

مع الأسف الخطاب مبدئي لا “شطرنجي” وكما قلت لا غنى عنه احتراما للنفس أمام عالم شاهد ونسبيا متضامن، ربما آن الأوان لكي يسلّم محمود عباس القيادة لجيل جديد، ليس رضوخا لإرادة إسرائيلية أميركية باتت تريد تغييره بسبب “راديكاليّته”المستجدة – وهذا هو السبب السيئ للتغيير – وإنما لإتاحة المجال لحيوية فلسطينية قيادية جديدة تواجه تحديات جديدة وغير متورطة بإرث الفساد الذي يصيب محيط محمود عباس- وهذا سيكون السبب الجيّد للتغيير.

أما انتقال السفارة الأميركية الذي بات مكرّساً مستقبلا هو من الناحية الأميركية الإسرائيلية حركة شطرنجية أكيدة في الشرق الأوسط الجديد الذي يجعل إسرائيل دولة محاطة إما بدول عربية مدمرة أو دول عربية مهددة فيما يتقدم الروسي بقوة وتتحرك لدى الدولتين القوميتين العريقتين تركيا وإيران نوازع الامتداد العميقة والمؤودة خارج الحدود. كل منهما دولة -أمة يحرك المحيط العربي القلق وعدم الاستقرار لديها خياراتٍ بل قابلياتٍ عميقةً كامنة في تاريخها.

يُسلِّم مثقفون أتراك معارضون للرئيس رجب طيّب أردوغان بواقع أن خطوة هجوم الجيش التركي على عفرين تثير حماسة وطنية عارمة لدى الأتراك. طبعا الأتراك التُرك لا الأتراك الكرد!؟ ولا يُنظر إليها حتى الآن أنها مجازفة خارج الحدود خصوصا وهذا ما يفسِّر تأييد حزب المعارضة الرئيسي” سي إتش بي” لها.

كل شيء مرهون بالنتائج الميدانية على المدى الأبعد لنعرف لاحقاً هل هي حركة مُحْكمة أم استدراج على رقعة الشطرنج؟

والاحتمال الأول أقوى إلا إذا ظهرت مفاجأة كردية في سوريا لم تظهر في العراق حيث الكيانية الكردية أكثر تبلوراً.

إذن الشطرنج الجديد في الشرق الأوسط متعدد في العلاقات والمواقع والأشخاص.